حلل كريم الجندي في هذه الورقة البحثية مستقبل الحوكمة المناخية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويشرح كيف تعيد تغيّرات المناخ والتحول العالمي في الطاقة تشكيل علاقة الدولة بالمجتمع، لا عبر السياسات وحدها، بل عبر طريقة اتخاذ القرار والتنفيذ وبناء الشرعية. يوضح الجندي منذ البداية أن المناخ لم يعد ملفًا بيئيًا تقنيًا، بل صار جزءًا من العقد الاجتماعي، يؤثر مباشرة في الثقة العامة، والاستقرار السياسي، وفرص النمو الاقتصادي.

 

تشير الورقة الصادرة عن تشاتام هآوس إلى أن تصاعد موجات الحر، وندرة المياه، والظواهر المناخية المتطرفة يدفع حكومات المنطقة إلى التحرك بسرعة، بينما يفرض غياب القبول الشعبي أو ضعف المشاركة مخاطر حقيقية على استدامة أي سياسات مناخية، خاصة تلك التي تمس الدعم، واستخدام الأراضي، والبنية التحتية الكبرى.

 

المناخ والعقد الاجتماعي في المنطقة

 

تطرح الورقة فكرة أساسية مفادها أن الحوكمة المناخية تختبر صلابة العقد الاجتماعي القائم. تؤكد أن السياسات المناخية تغيّر أنماط الحياة اليومية والاختيارات الاقتصادية للمواطنين، ما يجعل القبول المجتمعي شرطًا حاسمًا للاستمرار. توضح أن تجاهل الناس أو الاكتفاء بقرارات فوقية قد يولّد مقاومة شعبية تؤدي إلى تعطيل الإصلاحات أو التراجع عنها.

 

تشير الدراسة إلى أن إشراك المواطنين، أو على الأقل إطلاعهم واعتراف الدولة بتأثير السياسات عليهم، يعزز الثقة بالمؤسسات، ويفتح المجال أمام الاستفادة من المعرفة المحلية، كما يسهّل الوصول إلى التمويل الدولي الذي يشترط في كثير من الأحيان مشاركة أصحاب المصلحة. وتبرز أن الشباب في المنطقة يشعرون بتأثير التغير المناخي في حياتهم اليومية، ما يجعل المناخ عنصرًا سياسيًا واجتماعيًا لا يمكن تجاهله.

 

نماذج الحوكمة المناخية: المشاركة أم التقنية

 

تحدد الورقة نموذجين رئيسيين للحوكمة المناخية في المنطقة. يعتمد النموذج الأول، الذي تصفه بالـ«الدستوري-التشاركي»، على تكريس الحقوق البيئية في القوانين والدساتير، وإشراك السلطات المحلية والمجتمع المدني في التخطيط والتنفيذ، كما في المغرب وتونس. يمنح هذا النموذج شرعية أوسع، لكنه يواجه صعوبات في التنفيذ بسبب ضعف القدرات المؤسسية أو نقص الموارد.

 

في المقابل، يركّز النموذج الثاني، «الاستثماري-التقني»، على مركزية القرار، وسرعة الإنجاز، والمشروعات الكبرى المدفوعة بالاستثمار والتكنولوجيا، كما في الإمارات والسعودية. يحقق هذا النموذج نتائج سريعة وجاذبية استثمارية عالية، لكنه يحد من المشاركة المجتمعية، ما قد يخلق فجوة شرعية إذا فرضت السياسات أعباء اجتماعية أو اقتصادية.

 

توضح الورقة أن معظم دول المنطقة لا تتبع نموذجًا خالصًا، بل تتحرك على طيف بين الاثنين، وفق مواردها المالية، وقدراتها الإدارية، وضغوطها الداخلية والخارجية.

 

الحوكمة التكيفية كمسار عملي

 

تقدّم الورقة مفهوم «الحوكمة المناخية التكيفية» بوصفه المسار الأكثر واقعية للمنطقة. تجمع هذه المقاربة بين الشرعية التي تنتج عن الشفافية والمشاركة، والقدرة التنفيذية التي توفرها المركزية والتخطيط التقني. تشرح الدراسة كيف تحاول دول مثل مصر والأردن المزج بين مشاركة انتقائية تلبي متطلبات الممولين، وتنفيذ مركزي يضمن السيطرة وسرعة الإنجاز في ظل قيود مالية وسياسية.

 

وتؤكد الورقة أن الخيارات المؤسسية اليوم ستحدد قدرة دول المنطقة على جذب التمويل، وتنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة على نطاق واسع، وتجنب الاضطرابات الاجتماعية مع إعادة تشكيل أنظمة الطاقة والمياه والاقتصاد. وتحذر من أن غياب الثقة والحوكمة التكيفية قد يؤدي إلى تعثر التحول الأخضر وزيادة الهشاشة السياسية.

 

في توصياتها، تدعو الحكومات إلى اختيار التوقيت المناسب لإشراك أصحاب المصلحة، وتنظيم مشاركة مجتمعية محددة زمنيًا لا تعطل التنفيذ، مع تمكين وحدات متخصصة من قيادة المشروعات ذات الأولوية. وتشجع المجتمع المدني على العمل ضمن السياقات السياسية القائمة، واستغلال الأطر القانونية لمراقبة التنفيذ وشرح السياسات للمجتمعات المتأثرة. كما تحث الممولين الدوليين على مواءمة التمويل مع واقع الحوكمة بدل فرض نماذج موحدة.

 

بهذا الطرح، تقدم الورقة رؤية عملية ترى في الحوكمة التكيفية أداة لتحقيق توازن دقيق بين الكفاءة والشرعية، وتضع المناخ في قلب مستقبل العلاقة بين الدولة والمجتمع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.


https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/2025-12/2025-12-18-mena-adaptive-climate-governance-elgendy.pdf